شعب بلا هوية
عندما يتذكر الإنسان الماضي يسترجع الذكريات وكذلك الجذور التي إنبثق منها, فيتذكر كل لحظة من حياته التي عاشها, أين ولد وكيف ترعرع في ذلك البيت العتيق والشارع الذي لعب فيه, فيخطر ببالي كلمات الأغنية القديمة التي تقول (شارعنا القديم شارعنا زمان ياما لعبنا فيه), وكذلك يتذكر لحظات المدرسة التي تعلم فيها فيتذكر كل زواياها التي تسكنها العناكب, ويتذكر الألعاب القديمة التي كان يلعبها مع أصحابه في الأزقة والشوارع وفي الليل والنهار, لقد كانت ألعاب بدائية بعض الشئ لكنها تحمل في مضمونها الكثير وتزرع فينا روح التعاون والتحدي وحلاوة الأنتصار. وكذلك يتذكر من حياته كل لحظات الفرح والسرور مثل أيام العيد أقصد هنا عيدي الصغير والكبير وكيف كنا نسعى جاهدين للحصول على بدلة العيد والتي كانت يومها بدلة عربية ليبية من أيام زمان (أقصد قبل الزبدة والحرير والبولي استر والنيلون) وكان المبجج فينا يلبس بدلة كاملة (مع الزبون ) أو الجرد, لكن اليوم نرى الأطفال خاصة ينجرون وراء أبهى الأزياء من أرقى التصاميم والماركات العالمية في سعي منهم لإظهار غناهم وطمس فقرهم, لكننا نسينا هويتنا هنا , أين التراث المتمثل في أزيائنا, فقد كنا في السابق نميز الليبي من المصري أو الأفريقي أو الخليجي أو الأوروبي واليوم ترى أخانا الليبي يلبس من كافة الأصناف فلم يترك زياً ألا وأكتسى به فلم يترك الزي الباكستاني والأفغاني والهندي وناهيك عن الخليجي سواءً كان عمانياً أو إماراتياً أو سعودياً بل ولبس حتى الغثرة والعقال, ثم اتجه ولبس من صعيد مصر ومن أدغال النيجر وتشاد وانحرف في لبسه إلى السودان وحذفته رياح القبلي إلى المغرب, حتى النساء وقعن في هذا الفخ عن طيب خاطر فهذه عباءة خليجية وأخرى مغربية وبدلة هندية وملحفة سودانية وفستان المغنية...... وجهاز نقال الفنانة ...... وهلم جرا.
أما في المأكل والمشرب فحدث ولا حرج, فقد غزت المأكولات السريعة البيوت من أوسع الأبواب ومن النوافذ أيضاً وأصبحت المطاعم من كل لون وصنف فهذه سلسلة مطاعم ماكدونالد والمطاعم التركية والصينية وهذا مطعم يقدم الوجبات الايطالية, وإن ذكر مطعماً للوجبات الشرقية فبالتأكيد سيكون سوري أو مصري أو عراقي ونادراً ما نرى مطعماً خاصاً للمأكولات الشعبية وإن وجد فسوف يكون مخصصاً فقط للمناسبات. ويأتي السؤال أين المأكولات الشعبية مثل الفتات بالهريسة والبازين والكسكسي والعصبان والمقطع وغيرها, أين خبرة التنور التي تكاد تندثر صناعتها في بيوتنا فأصبحنا نرى العمالة الوافدة القادمة إلى بلدنا بطريقة غير شرعية هي التي تصنعها لنا بمرأى من أعيننا وفي الشارع وتحت أدخنة السيارات والغبار, وحتى النساء اللاتي كن يصنعنها أصبحن يفضلنها جاهزة من تحت يد ذلك الوافد الذي لا يحمل بطاقة صحية أحياناً وإن امتلك واحدة فهي في حكم التزوير والغش أحياناً (إلا ما ندر). والحق سوف يأتي زمان نبكي فيه على الأطلال عندما تكون جميع المأكولات التي ذكرتها والتي لم أذكرها في حككم النسيان ومن ضمن أخوات كان, حينئذ سوف نراها فقط في معارض التراث الشعبي كما نرى اليوم هياكل الديناصورات المنقرضة عندئذ نحاول أن نغرسها في أبنائنا فنجد أن الأوان قد فات.
وإن ذكرت البيوت سوف تجد أننا قد بدأنا نوعاً ما في نسيان ذكر المربوعة التي هي عماد "الحوش" وعنوان الضيافة لكل ليبي, فنرى البعض يقول غرفة المعيشة وغرفة الجلوس (القعدة) والمضافة وغيرها, وإن فكرت في شراء صالون لأحدى الغرف سوف تجد المصطلحات التالية: جلسة خليجية وجلسة مغربية وصالون أجنبي أو إفرنجي , ولن تسمع أبدا بجلسة ليبية, حتى أني في أحد الأيام سألت أحد أصحاب هذه المحال فأجابنـي بـالحـرف الواحد " طلبك مش عدنا يا بيه" يا سلام أخونا مصري (بدون تعليق), إذاً لماذا لا نخلقها (عذرا لأني استعملت كلمة خلق فالخلق للخالق وحده) ونزجها في السوق زجاً ونصدرها للخارج إن أمكن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل نحن شعب بلا هوية؟ والجواب هو لا وألف لا. نحن شعب لنا تاريخ ولنا جذور ضاربة في عمق التاريخ, وتراثنا غني ثري بالمأثورات الشعبية, غني بالقيم والأصالة. ومع كل ما ذكرت يبقى أن أقول حقيقة للتاريخ هي أن هناك أناس إلى يومنا هذا متمسكين بالقيم والمبادئ والأصالة الليبية, فلا يزال منهم من يشرب حليب الناقة كل صباح ويفطر على تمر يابس وخبزة دفنت في رمال صحرائنا وزميتة رشفت بزيت زيتون وعجنت بماء عذب ليبي, نعم لا زالوا على الدرب الذي وجدوا عليه أبائهم, فكانوا خير خلف لخير سلف. نعم لا زال هناك من يحفظ هويتنا ويبقيها صامدة في وجه التغيير وفي وجه من يدعي التطور والتقدم والعلمنة, ولنا في اليابان مثلاً, فقد احتفظت بموروثها عبر الأجيال حتى بعد التقدم الهائل الذي حققته فلا زال يابان الأمس هو يابان اليوم والغد.
وأخيراً, ألتمس العذر من مقالتي فلم أقصد السخرية أو التهكم على أحد فأنا ليبي قلباً وقالباً وإنما قصدت أن أسلط الضوء على جانب من حياتنا لأعكس صورة عبر المرآة ليراها الجميع من كل جانب, فإن أصبت في شئ فذلك من الرحمن الرحيم وإن أخطات فذلك من الشيطان الرجيم. وفي النهاية نرجوا من الله العلي القدير أن يحفظ قائدنا رمز عزتنا وأن يحفظ ليبيا البلد الأم وأن يظل اسم ليبيا عالياً مدعاة للفخر لكل ليبي فوق المعمورة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فاضل بن يحمد